فصل: بيان درجات الرياء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان درجات الرياء

اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه‏.‏

وأركانه ثلاثة‏:‏ المرائي به والمرائي لأجله ونفس قصد الرياء‏.‏

الركن الأول‏:‏ نفس قصد الرياء وذلك لا يخلوا إما أن يكون مجرداً دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب وإما أن يكون مع إرادة الثواب فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعاً‏:‏ ‏"‏ الأولى ‏"‏ وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلاً كالذي يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي ربما يصلي من غير طهارة مع الناس فهذا جرد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عن الله تعالى‏.‏

وكذلك من يخرج الصدقة خوفاً من مذمة الناس وهو لا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لما أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء‏.‏

‏"‏ الثانية ‏"‏ أن يكون له قصد الثواب أيضاً ولكن قصداً ضعيفاً بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله على العمل فهذا قريب مما قبله وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم‏.‏

‏"‏ الثالثة ‏"‏ أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة أو كان كل واحد منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأساً برأس لا له ولا عليه أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم وقد تكلمنا عليه في كتاب الإخلاص‏.‏

‏"‏ الرابعة‏:‏ أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ولو كان قصد الريا وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب وأما قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ‏"‏ فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح‏.‏

الركن الثاني‏:‏ المرائي به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها‏.‏

القسم الأول وهو الأغلظ‏:‏ الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات‏.‏

‏"‏ الأولى ‏"‏ الرياء بأصل الإيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار وهو الذي يظهر

كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإسلام وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى كقوله عز وجل ‏"‏ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ‏"‏ أي في دلالتهم بقولهم على ضمائرهم وقال تعالى ‏"‏ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ‏"‏ الآية وقال تعالى ‏"‏ وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً مذبذبين بين ذلك ‏"‏ والآيات فيهم كثيرة‏.‏

وكان النفاق يكثر في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض وذلك مما يقل في زماننا ولكن يكثر نفاق من ينسل عن الدين باطناً فيجحد الجنة والنار والدار الآخرة ميلاً إلى قول الملحدة أو يعتقد على بساط الشرع والأحكام ميلاً إلى أهل الإباحة أو يعتقد كفراً أو بدعة وهو يظهر خلافه فهؤلاء من المنافقين والمرائين المخلدين في النار وليس وراء هذا الرياء رياء وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر‏.‏

‏"‏ الثانية ‏"‏ الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين وهذا أيضاً عظيم عند الله ولكنه دون الأول بكثير‏.‏

ومثاله‏:‏ أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفاً من ذمه والله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجه أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع وعادته ترك الصلاة في الخلوة وكذلك يصوم رمضان وهو يشتهى خلوة من الخلق ليفطر وكذلك يحضر الجمعة ولولا خوف المذمة لكان لا يحضرها أو يصل رحمه أو يبر والديه لا عن رغبة ولكن خوفاً من الناس أو يغزو أو يحج كذلك‏.‏

فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه ولو كلف أن يعبد غير الله أو يسجد لغيره لم يفعل ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند اطلاع الناس فتكون منزلته عند الخلق أحب من منزلته عند الخالق وخوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله ورغبته في محمدتهم أشد من رغبته في ثواب الله وهذا غاية الجهل وما أجدر صاحبه بالمقت وإن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد‏.‏

‏"‏ الثالثة ‏"‏ لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تكرها لا يعصى ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب ثم يبعثه الرياء على فعلها وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض واتباع الجنازة وغسل الميت وكالتجهد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس‏.‏

فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفاً من المذمة أو طلب للمحمدة ويعلم الله تعالى منه أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض‏.‏

فهذا أيضاً عظيم ولكنه دون ما قبله فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق وهذا أيضاً قد فعل ذلك واتق ذم الخلق دون ذم الخالق فكان ذم الخلق أعظم عنده من عقاب الله وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقاباً على ترك النافلة لو تركها وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه‏.‏

فهذا هو الرياء بأصول العبادات‏.‏

القسم الثاني‏:‏ الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها وهو أيضاً على ثلاثة درجات‏.‏

‏"‏ الأولى ‏"‏ أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ولا يطول القراءة فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود بين السجدتين وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة ومن جلس بين يدي إنسان متربعاً أو متكئاً فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه تقديماً للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة في الملأ دون الخلوة‏.‏

وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع عليه غيره أخرجها من الجيد خوفاً من مذمته وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث لأجل الخلق لا إكمالاً لعبادة الصوم خوفاً من المذمة فهذا أيضاً من الرياء المحظور لأن فيه تقديماً للمخلوقين على الخالق ولكنه دون الرياء بأصول العبادات‏.‏

إن قال المرائي‏:‏ إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود والكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة وإنما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية فيقال له‏:‏ هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس وليس الأمر كذلك فإنضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه فضلاً وولاية يتقلدها فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به إذا كان الملك وحده وإذا كان عند بعض غلمانه امتنع خوفاً من مذمة غلمانه وذلك محال بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر‏.‏

نعم للمرائي فيه حالتان‏:‏ إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعاً‏.‏

والثانية‏:‏ أن يقول ليس يحضرني الإخلاص في تحسين الركوع والسجود ولو خففت كانت صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم فأستفيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم ولا أرجو الله عليه ثواباً فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفون الثواب وتحصل المذمة فهذا فيه أدنى نظر‏.‏

والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما سبق‏.‏

‏"‏ الدرجة الثانية ‏"‏ أن يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال والزيادة على السور المعتادة وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة‏.‏

وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدر عليه‏.‏

‏"‏ الثالثة ‏"‏ أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضاً كحضوره الجماعة قبل القوم وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإمام وما يجري مجراه‏.‏

وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم بالصلاة فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشد من بعض‏.‏

والكل مذموم‏.‏

الركن الثالث‏:‏ المرائي لأجله فإن للمرائي مقصوداً لا محالة وإنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو ‏"‏ الأولى ‏"‏ وهي أشدها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية كالذي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام فيأخذها أو يسلم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصدة الفاسدة في المعاصي‏.‏

وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء والصبيان أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام‏.‏

وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصية واتخذوها آلة ومتجراً وبضاعة لهم في فسقهم ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه فيظهر التقوى لنفي التهمة كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال نفسه فكيف يستحل مال غيره وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن نفسه بالخشوع وإظهار التقوى‏.‏

‏"‏ الثانية ‏"‏ أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة كالذي يظهر الحزن والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة وكالذي يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته‏.‏

فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه‏.‏

‏"‏ الثالثة ‏"‏ أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح ولكن يظهر عبادته خوفاً من أن ينظر إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلاً فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح فيخاف أن يظهر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن ويقول ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئاً من ذلك وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم وقد لا يصرح بأن صائم ولكن يقول‏:‏ لي عذر وهو جمع بين خبيثين فإنه يرى أنه صائم ثم يرى أنه مخلص ليس بمراء وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائياً فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذراً تصريحاً أو تعريضاً بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم أو يقول أفطرت تطييباً لقلب فلان ثم قد لا يذكر ذلك متصلاً بشربه كي لا يظن به أن يعتذر رياء ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا مثل أن يقول‏:‏ إن فلاناً محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألح علي اليوم ولم أجد بداً من تطييب قلبه‏.‏

ومثل أن يقول‏:‏ إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوماً مرضت فلا تدعني أصوم فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلى لرسوخ عرق الرياء في الباطن‏.‏

أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبساً وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه عنده وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور - وسيأتي شرح ذلك وشروطه -‏.‏

فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه وهو من أشد المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر يزل فيه فحول العلماء فضلاً عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم‏.‏

بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل

اعلم أن الرياء جلي وخفي فالجلي هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب وهو أجلاه وأخفى منه قليلاً هو ما لا يحمل على العمل بمجرده إلا أنه يخفف العمل الذي يريد به وجه الله كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشط له وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضاً ولكنه مع ذلك مستطبن في القلب ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يكن يعرف إلا بالعلامات وأجلى علاماته أن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل يكرهه ويرده ويتمم العمل كذلك ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور ولولا التفات القلب إلى الناس لما ظهره سروره عند اطلاع الناس فلقد كان الرياء مستكناً في القلب استكنان النار في الحجر فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور ثم إذا استشعر لذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتاً وغذاء للعرق الخفي من الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية فيتقاضى تقاضياً خفياً أن يتكلف سبباً يطلع عليه بالتعريض وإلقاء الكلام عرضاً وإن كان لا يدعو إلى التصريح وقد يخفى فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً وتصريحاً ولكن بالشمائل كإظهار النحول والصفار وخفض الصوت ويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون‏.‏

وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال‏:‏ إن الله عز وجل يقول للقراء يوم القيامة ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبتدءون بالسلام ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج‏.‏

وفي الحديث ‏"‏ لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم ‏"‏ وقال عبد الله بن المبارك‏.‏

روي عن وهب بن منبه أنه قال إن رجلاً من السواح قال لأصحابه إنا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ بالناس فقال السائح ما هذا قيل هذا الملك قد أظللك فقال للغلام ائتني بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلاً عنيفاً فقال المالك أين صاحبكم فقالوا هذا قال كيف أنت قال كالناس وفي حديث آخر‏:‏ بخير فقال الملك ما عند هذا من خير‏!‏ فانصرف عنه فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام‏.‏

فلم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي مجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم الصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلص إذ علموا أن الله لا يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزى والد عن ولده ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد‏.‏

نفسي نفسي‏!‏ فضلاً عن غيرهم فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهم يستصحبون مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهم الزائف والبهرج والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه ولا حميم يتمسك به فلا ينجى إلا الخالص من النقد فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه له من التقوى‏.‏

فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر ومهما أدرك من نفسه تفرقه بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا فلو كان مخلصاً قانعاً بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر مفسداً للعمل بل فيه تفضيل‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما نرى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم فنقول‏:‏ أولاً كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم‏.‏

فأما المحمود فأربعة أقسام ‏"‏ الأول ‏"‏ أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله فيستدل به على حسن صنع الله به ونظره إليه وإلطافه به فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصية ويظهر الطاعة ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر الله لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى ‏"‏ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ‏"‏ فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به‏.‏

‏"‏ الثاني ‏"‏ أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليهفي الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما ستر الله على عبد ذنباً في الدنيا إلى ستره عليه في الآخرة فيكون الأول فرحاً بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل وهذا التفات إلى المستقبل‏.‏

‏"‏ الثالث ‏"‏ أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره فيكون له أجر العلانية بما أظهر آخراً وأجر السر بما قصده أولاً ومن اقتدى به في طاعة فله مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن يقنص من أجورهم شيء وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة‏.‏

‏"‏ الرابع ‏"‏ أن يحمده المطلعون على طاعته فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم وبحبهم للمطيع وبميل قلوبهم إلى الطاعة إذاً من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته ويحسده أو يذمه ويهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ولا يحمده عليه فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله‏.‏

وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمده غيره مثل فرحه بحمدهم إياه‏.‏

وأما المذموم وهو الخامس‏:‏ فهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس حتى يمدحوه ويعظموه ويقوموا بقضاء حوائجة ويقابلوه بالإكرام في مصادره وموارده فهذا مكروه والله تعالى أعلم‏.‏

بيان ما يحبط العمل من الرياء الخفي والجلي وما لا يحبط

فنقول فيه‏:‏ إذا عقد العباد العبادة على الإخلاص ثم ورد عليه وارد الرياء فلا يخلو إما أن يرد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ فإن ورد بعد الفراغ سرور مجرد بالظهور من غير إظهار فهذا لا يفسد العمل إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص سالماً عن الرياء فما يطرأ بعده فيرجو أن لا ينعطف عليه أثر لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به ولم يتمن إظهاره وذكره ولكن اتفق ظهوره وبإظهار الله ولم يكن منه إلا ما دخل من السرور والارتياح على قلبه‏.‏

نعم لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار فتحدث به وأظهره فهذا مخوف‏.‏

وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه يحبط فقد روي عن ابن مسعود أنه سمع رجلاً يقول قرأت البارحة البقرة فقال ذلك حظه منها‏.‏

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له‏:‏ صمت الدهر يا رسول الله‏.‏

فقال له ‏"‏ ما صمت ولا أفطرت فقال بعضهم إنما قال ذلك لأنه أظهره وقيل هو إشارة إلى كراهة صوم الدهر‏.‏

وكيفما كان فيحتمل أن يكون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ابن مسعود استدلالاً على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء وقصده له لما أن ظهر منه التحدث به إذ يبعد أن يكون ما يطرأ بعد العمل مبطلاً لثواب العمل بل الأقيس أن يقال إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ من الصلاة فإن ذلك قد يبطل الصلاة ويحبط العمل‏.‏

وأما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلاً وكان قد عقد على الإخلاص ولكن ورد في أثنائها وارد الرياء فلا يخلوا إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل وإما ان يكون رياء باعثاً على العمل فإن كان باعثاً على العمل وختم العبادة به حبط أجره‏.‏

ومثاله‏:‏ أن يكون في تطوع فتجددت له نظارة أو حضر ملك من الملوك وهو يشتهي أن ينظر إليه أو يذكر شيئاً نسيه من ماله وهو يريد أن يطلبه ولولا الناس لقطع الصلاة فاستتمها خوفاً من مذمة الناس فقد حبط أجره وعليه الإعادة إن كان في فريضة وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله أي النظر إلى خاتمته‏.‏

وروي ‏"‏ أن من راءى بعمل ساعة حبط عمله الذي كان قبله وهذا منزل على الصلاة في هذه الصورة لا على الصدقة ولا على القراءة فإن كل جزء من ذلك مفرد فما يطرأ يفسد الباقي دون الماضي والصوم والحج من قبيل الصلاة‏.‏

وأما إذا كان وارد الرياء وقصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضاً فهذا رياء قد أثر في العمل وانتهض باعثاً على الحركات فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة والثواب وصار قصد العبادة مغموراً‏.‏

فهذا أيضاً ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام بشرط أن لا يطرأ عليها ما يغلبها أو يغمرها ويحتمل أن يقال لا يفسد العبادة نظراً إلى حالة العقد وإلى بقاء قصد أصل الثواب وإن ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه‏.‏

ولقد ذهب الحارق المحاسبي رحمه الله تعالى إلى الإحباط في أمر هو أهون من هذا وقال‏:‏ إذا لم يرد إلا مجرد السرور باطلاع الناس - يعني سروراً هو كحب المنزلة والجاه - قال قد اختلف الناس في هذا فصارت فرقة إلى أنه محبط لأنه نقض العزم الأول وركن إلى حمد المخلوقين ولم يختم عمله بالإخلاص وإنما يتم العمل بخاتمته ثم قال ولا أقطع عليه بالحبط وإن لم يتزيد في العمل ولا آمن عليه وقد كنت أقف فيه لاختلاف الناس والأغلب على قلبي أنه يحبط إذا ختم عمله بالرياء ثم قال‏:‏ فإن قيل قد قال الحسن رحمه الله تعالى إنهما حالتان فإذا كانت الأولى لم تضره الثانية‏.‏

وقد روي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني قال ‏"‏ لك أجران أجر السر وأجر العلانية ثم تكلم على الخبر والأثر فقال‏:‏ أما الحسن فإنه أراد بقوله‏:‏ لا يضره أي لا يدع العمل ولا تضره الخطرة وهو يريد الله ولم يقل إذا عقد الرياء بعد عقد الإخلاص لم يضره وأما الحديث فتكلم عليه بكلام طويل يرجع حاصله إلى ثلاثة أوجه ‏"‏ أحدها ‏"‏ أن يحتمل أنه أراد ظهور عمله بعد الفراغ وليس في الحديث أنه قبل الفراغ‏.‏

‏"‏ الثاني ‏"‏ أنه أراد أن يسر به للقتداء به أو لسرور آخر محمود مما ذكرناه قبل لا سروراً بسبب حب المحمدة والمنزلة بدليل أنه جعل له به أجراً ولا ذاهب من الأمة إلى أن للسرور بالمحمدة أجراً وغايته أن يعفى عنه فكيف يكون للمخلص أجر وللمرائي أجران ‏"‏ والثالث ‏"‏ أنه قال‏:‏ أكثر من يروي الحديث يرويه غير متصل إلى أبي هريرة بل أكثرهم يوقفه على أبي صالح ومنهم من يرفعه فالحكم بالعمومات الواردة في الرياء أولى‏.‏

هذا ما ذكره ولم يقطع به بل أظهر ميلاً إلى الإحباط‏.‏

والأفيس عندنا‏:‏ أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بل بقي العمل صادراً عن باعث الدين وإنما انضاف إليه السرور بالاطلاع فلا يفسد العمل لأنه لم ينعدم به أصل نيته وبقيت تلك النية باعثة على العمل وحاملة على الإتمام‏.‏

وأما الأخبار التي وردت في الرياء فهي محمولة على ما إذا لم يرد به إلا الخلق وأما ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساوياً لقصد الثواب أو أغلب منه أما إذا كان ضعيفاً بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب الصدقة وسائر الأعمال ولا ينبغي أن يفسد الصلاة ولا يبعد أن يقال إن الذي أوجب عليه صلاة خالصة لوجه الله - والخالص ما لا يشوبه شيء - فلا يكون مؤدياً للواجب مع هذا الشوب والعلم عند الله فيه‏.‏

وقد ذكرنا في كتاب الإخلاص كلاماً أوفى مما أوردناه الآن فليرجع إليه فهذا حكم الرياء الطارئ بعد عقد العبادة إما قبل الفراغ أو بعد الفراغ‏.‏

القسم الثالث‏:‏ الذي يقارن حال العقد بأن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء فإن استمر عليه سلم فلا خلاف في أن يقضى ولا يعتد بصلاته وإن ندم عليه في أثناء ذلك واستغفر ورجع قبل التمام ففيما يلزمه ثلاثة أوجه ‏"‏ قالت فرقة ‏"‏ لم تنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف ‏"‏ وقالت فرقة ‏"‏ تلزمه إعادة الأفعال كالركوع والسجود وتفسد أفعاله دون تحريمة الصلاة لأن التحريم عقد والرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريم عن كونه عقداً ‏"‏ وقالت فرقة ‏"‏ لا يلزم إعادة شيء بل يستغفرالله بقلبه ويتم العبادة على الإخلاص والنظر إلى خاتمة العبادة كما لو ابتدأ بالإخلاص وختم بالرياء لكان يفسد عمله‏.‏

وشبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة عارضة فإذا أزيل العارض عاد إلى الأصل فقالوا إن الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلا لله ولو سجد لغير الله لكان كافراً ولكن اقترن به عارض الرياء ثم زال بالندم والتوبة وصار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس وذمهم فتصح صلاته‏.‏

ومذهب الفريقين الآخرين خارج عن قياس الفقه جداً خصوصاً من قال يلزمه إعادة الركوع والسجود دون الافتتاح لأن الركوع والسجود إن لم يصح صار أفعالاً زائدة في الصلاة فتفسد الصلاة‏.‏

وكذلك قول من يقول لو ختم بالإخلاص صم نظراً إلى الآخر فهو أيضاً ضعيف لأن الرياء يقدح في النية وأولى الأوقات بمراعاة أحكام النية حال الافتتاح فالذي يستقيم على قياس الفقه هو أن يقال إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب وامتثال الأمر لم ينعقد افتتاحه ولم يصح ما بعده وذلك فيمن إذا خلا بنفسه لم يصل ولما رأى الناس تحرم بالصلاة وكان بحيث لو كان ثوبه نجساً أيضاً كان يصلي لأجل الناس فهذه صلاة لا نية فيها إذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين وههنا لا باعث ولا إجابة‏.‏

فأما إذا كان بحيث لولا الناس أيضاً لكان يصلي إلا أنه ظهر له الرغبة في المحمدة أيضاً فاجتمع الباعثان فهذا إما أن يكون في صدقة وقراءة وما ليس فيه تحليل وتحريم أو في عقد صلاة وحج فإن كان في صدقة فقد عصى بإجابة باعث الرياء وأطاع بإجابة باعث الثواب ‏"‏ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ‏"‏ فله ثواب بقدر قصده الصحيح وعقاب بقدر قصده الفاسد ولا يحبط أحدهما الآخر‏.‏

وإن كان في صلاة تقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية فلا يخلوا إما أن تكون فرضاً أو نفلاً فإن كانت نفلاً فحكمها أيضاً حكم الصدقة فقد عصى من وجه وأطاع ومن وجه إذ اجتمع في قلبه الباعثان ولا يمكن أن يقال صلاته فاسدة والاقتداء به باطل حتى إن من صلى التراويح وتبين من قرائن حاله أن يصده الرياء بإظهار حسن القراءة ولولا اجتماع الناس خلفه وخلا في بيت وحده لما صلى لا يصح الاقتداء به فإن المصير إلى هذا بعيد جداً بل يظن بالمسلم أنه يقصد الثواب أيضاً بتطوعه فتصح باعتبار ذلك القصد صلاته ويصح الاقتداء به وإن اقترن به قصد آخر وهو به عاص فأما إذا كان في فرض واجتمع الباعثان وكان كل واحد لا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه لأن الإيجاب لم ينتهض باعثاً في حقه بمجرده واستقلاله وإن كان كل باعث مستقلاً حتى لو لم يكن باعث الرياء لأدى الفرائض ولو لم يكن باعث الفرض لأنشأ صلاة تطوعاً لأجل الرياء فهذا محل النظر وهو محتمل جداً فيحتمل أن يقال إن الواجب صلاة خالصة لوجه الله ولم يؤد الواجب الخالص ويحتمل أن يقال الواجب امتثال الأمر بباعث مستقل بنفسه وقد وجد فاقتران غيره به لا يمنع سقوط الفرض عنه كما لو صلى في دار مغصوبة فإنه وإن كان عاصياً بإيقاع الصلاة في الدار المغصوبة فإنه مطيع بأصل الصلاة ومسقط للفرض عن نفسه وتعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصل الصلاة أما إذا كان الرياء في المبادرة مثلاً دون أصل الصلاة مثل من بادر إلى الصلاة في أول الوقت لحضور جماعة لو خلا لأخر إلى وسط الوقت ولولا الفرض لكان لا يبتدئ صلاة لأجل الرياء فهذا مما يقطع بصحة صلاته وسقوط الفرض به لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضه غيره بل من حيث تعيين الوقت فهذا أبعد من القدح في النية هذا في رياء يكون باعثاً على العمل وحاملاً عليه وأما مجرد السرور باطلاع الناس عليه إذا لم يبلغ أثره إلى حيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة‏.‏

فهذا ما نراه لائقاً بقانون الفقه والمسألة غامضة من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا لها في فن الفقه والذين خاضوا فيها وتصرفوا لم يلاحظوا قوانين الفقه ومقتضى فتاوي الفقهاء في صحة الصلاة وفسادها بل حملهم الحرص على تصفية القلوب وطلب الإخلاص على إفساد االعبادات بأن الخواطر وما ذكرناه هو الأقصد فيما نراه والعلم عند الله عز وجل فيه وهو عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم‏.‏

قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله تعالى وأنه من كبائر المهلكات وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الحد في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل المشاق فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرة البشعة وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد كلهم إذ الصبي يخلق ضعيف العقل والتمييز ممتد العين إلى الخلق كثير الطمع فيهم فيرى الناس يتصنع بعضهم لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة ويرسخ ذلك في نفسه وإنما يشعر بكونه مهلكاً بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه وترسخ فيه فلا يقدر على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوة الشهوات‏.‏

فلا ينفك أحد عن الحاجة إلى هذه المجاهدة ولكنها تشق أولاً وتخف آخراً وفي علاجه مقامان ‏"‏ أحدهما ‏"‏ قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه ‏"‏ والثاني ‏"‏ دفع ما يخطر منه في الحال‏.‏

‏"‏ المقام الأول ‏"‏ في قلع عروقه واستئصال أصوله‏:‏ وأصله حب المنزلة والجاه‏.‏

وإذا فضل رجع إلى ثلاثة أصول وهي لذة المحمدة والفرار من ألم الذم والطمع فيما في أيدي الناس‏.‏

ويشهد للرياء بهذه الأسباب وأنها الباعثة للمرائي ما روى أبوموسى أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله الرجل يقاتل حمية - ومعناه أن يأنف أن يقهر أو يذم بأنه مقهور مغلوب - وقال‏:‏ والرجل يقاتل ليرى مكانه وهذا هو طلب لذة الجاه والقدر في القلوب - والرجل يقاتل للذكر - وهذا هو الحمد باللسان - فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ‏"‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إذا التقى الصفان نزلت الملائكة فكتبوا الناس على مراتبهم فلان يقاتل للذكور وفلان يقاتل للملك والقتال للملك إشارة إلى الطمع في الدنيا‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ يقولون فلان شهيد ولعله يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقاً‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من غزا لا يبغي إلا عقالاً فله ما نوى فهذا إشارة إلى الطمع‏.‏

وقد لا يشتهي الحمد ولا يطمع فيه ولكن يحذر من ألم الذم كالبخيل بين الأسخياء وهم يتصدقون بالمال الكثير

فإنه يتصدق بالقليل كي لا يبخل وهو ليس يطمع في الحمد وقد سبقه غيره وكالجبان بين الشجعان لا يفر من الزحف خوفاً من الذم وهو لا يطمع في الحمد وقد هجم غيره على صف القتال‏.‏

ولكن إذا أيس من الحمد كره الذم وكالرجل بين قوم يصلون جميع الليل فيصلي ركعات معدودة حتى لا يذم بالكسل وهو لا يطمع في الحمد‏.‏

وقد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم ولذلك قد يترك السؤال عن علم هو محتاج إليه خيفة من أن يذم بالجهل ويفتى بغير علم ويدعى العلم بالحديث وهو به جاهل كل ذلك حذراً من الذم‏.‏

فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء وعلاجه ما ذكرناه في الشطر الأول من الكتاب على الجملة‏.‏

ولكنا نذكر الآن ما يخص الرياء وليس يخفى أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه لظنه أنه خير له ونافع ولذيذ إما في الحال وإما في المآل فإن علم أنه لذيذ في الحال ولكنه ضار في المآل سهل عليه قطع الرغبة عنه كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إذا بان له أن فيه سماً أعرض عنه فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من المضرة‏.‏

ومهما عرف العبد مضرة الرياء وما

يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من العقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر‏.‏

حيث ينادي على رؤوس الخلائق‏:‏ يا فاجر يا غادر يا مرائي أما استحييت إذ اشتريت بطاعة االله عرض الدنيا وراقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله وتحببت إلى العباد بالتبغض إلى الله وتزينت لهم بالشين عند الله وتقربت إليهم بالبعد من الله وتحمدت إليهم بالتذمم عند الله وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله أما كان أحد أهون عليك من الله‏!‏ فمهما تفكر العبد في هذا الخزي وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة وبما يحبط من ثواب الأعمال مع أن العمل الواحد ربما كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات فترجح به ويهوي إلى النار فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافياً في معرفة ضرره وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علو الرتبة عند الله في زمرة النبيين والصديقين وقد حط عنهم بسبب الرياء ورد إلى صف النعال من مراتب الأولياء هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق فإن رضا الناس غاية لا تدرك فكل ما يرضى به فريق يسخط به فريق ورضا بعضهم في سخط بعضهم ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً عليه ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ولا يزيده حمدهم رزقاً ولا أجلاً ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة‏.‏

وأما الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب ووهم فاسد قد يصيب وقد يخطئ وإذا أصاب فلا تفي لذته بألم منته ومذلته وأما ذمهم فلم يحذر منه ولا يزيده ذمهم شيئاً ما لم يكتبه عليه الله ولا يعجل أجله ولا يؤخر رزقه ولا يجعل من أهل النار إن كان من أهل الجنة ولا يبغضه إلى الله إن كان محموداً عند الله ولا يزيده مقتاً إن كان ممقوتاً عند الله فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا‏.‏

فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه ويكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إلى الناس ويعرفهم أنه مراء وممقوت عند الله ولو أخلص لله لكشف اللهم لهم إخلاصه وحببه إليهم وسخرهم له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه مع أنه لا كمال في مدحهم ولا نقصان في ذمهم كما قال شاعر بني تميم‏:‏ إن مدحي زين وإن ذمي شين‏!‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كذبت ذاك الله الذي لا إله إلا هوإذ لا زين إلا في مدحه ولا شين إلا في ذمه فأي خير لك في مدح الناس‏.‏

وأنت عند الله مذموم ومن أهل النار وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في زمرة المقربين فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة مع ما فيه من الكدورات والمنغصات واجتمع همه وانصرف إلى الله قلبه وتخلص من مذلة الرياء ومقاساة قلوب الخلق وانعطف من إخلاصه أنوار على قلبه ينشرح بها صدره وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه بالله ووحشته من الخلق واستحقاره للدنيا واستعظامه للآخرة وسقط محل الخلق من قلبه وانحل عنه داعية الرياء وتذلل له منهج الإخلاص‏.‏

فهذا وما قدمنا في الشطر الأول هي الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء‏.‏

وأما الدواء العملي‏:‏ فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله أو إطلاعه على عباداته ولا تنازعه النفس إلى طلب علم غير الله به‏.‏

وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها فقال‏:‏ أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه لا تجالسنا بعد هذا‏.‏

فلم يرخص في إظهار هذا القدر لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها فلا دواء للرياء مثل الإخفاء وذلك يشق في بداية المجاهدة وإذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمد به عباده من حسن التوفيق والتأييد والتسديد و ‏"‏ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ‏"‏ فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب ‏"‏ والله لا يضيع أجر المحسنين وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً ‏"‏‏.‏

‏"‏ المقام الثاني ‏"‏ في دفع العارض منه في أثناء العبادة وذلك لا بد من تعلمه أيضاً فإن من جاهد نفسه وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة وقطع الطمع وإسقاط نفسه من أعين المخلوقين واستحقار مدح المخلوقين وذمهم فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادات بل يعارضه بخطرات الرياء ولا تنقطع عنه نزغاته وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية فلا بد وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء‏.‏

وخواطر الرياء ثلاثة - قد تخطر دفعة واحدة كالخاطر الواحد وقد تترادف على التدريج - فالأول‏:‏ العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم‏.‏

ثم يتلوه هيجان الرغبة من النفس في حمدهم وحصول المنزلة عندهم‏.‏

ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له والركون إليه وعقد الضمير على تحقيقه‏.‏

فالأول‏:‏ معرفة‏.‏

والثاني‏:‏ حالة تسمى الشهوة والرغبة‏.‏

والثالث‏:‏ فعل يسمى العزم وتصميم العقد‏.‏

وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال‏:‏ ما لك وللخلق علموا أو لم يعلموا والله عالم بحالك فأي فائدة في علم غيره فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد يذكر ما رسخ في قلبه من قبل من آفة الرياء وتعرضه للمقت عند الله في القيامة وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله فكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله وعقابه الأليم والشهوة تدعوه إلى القبول والكراهة تدعوه إلى الإباء والنفس تطاوع لا محالة أقواهما وأغلبهما‏.‏

فإذن لا بد في رد الرياء من ثلاثة أمور‏:‏ المعرفة والكراهة والإباء‏.‏

وقد يشرع العبد في العبادة على عزم الإخلاص ثم يرد خاطر الرياء فيقبله ولا تحضره المعرفة ولا الكراهة التي كان الضمير منطوياً عليها وإنما سبب ذلك امتلاء القلب بخوف الذم وحب الحمد واستيلاء الحرص عليه بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره فيعزب عن القلب المعرفة السابقة بآفات الرياء وشؤم عاقبته إذ لم يبق موضع في القلب خال عن شهوة الحمد أو خوف الذم وهو كالذي يحدث نفسه بالحلم وذم الغضب ويعزم على التحلم عند جريان سبب الغضب ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه فينسى سابقة عزمه ويمتلئ قلبه غيظاً يمنع من تذكر آفة الغضب ويشغل قلبه عنه فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب وتدفع نور المعرفة مثل مرارة الغضب‏.‏

وإليه أشار جابر بقوله‏:‏ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت فأنسيناها يوم حنين حتى نودي‏:‏ يا أصحاب الشجرة فرجعوا‏.‏

وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف فنسيت العهد السابق حتى ذكروا وأكثر الشهوات التي تهجم فجأة هكذا تكون إذ ينسى معرفة مضرته الداخلة في عقد الإيمان‏.‏

ومهما نسي المعرفة لم تظهر الكراهة فإن الكراهة ثمرة المعرفة‏.‏

وقد يتذكر الإنسان فيعلم هواه عقله ولا يقدر على ترك لذة الحال فيسوف بالتوبة أو يتشاغل عن التفكر في ذلك لشدة الشهوة فكم من عالم يحضره كلام لا يدعوه إلى فعله إلا رياء الخلق وهو يعلم ذلك ولكنه يستمر عليه فتكون الحجة عليه أوكد إذ قبل داعي الرياء مع علمه بغائلته وكونه مذموماً عند الله ولا تنفعه معرفته إذا خلت المعرفة عن الكراهة‏.‏

وقد تحضر المعرفة والكراهة ولكن مع ذلك يقبل داعي الرياء لكون الكراهة ضعيفة بالإضافة إلى قوة الشهوة وهذا أيضاً لا ينتفع بكراهته إذ الغرض من الكراهة أن تصرف عن الفعل‏.‏

فإذن لا فائدة إلا في اجتماع الثلاث‏:‏ وهي المعرفة والكراهة والإباء‏.‏

فالإباء ثمرة الكراهة والكراهة ثمرة المعرفة وقوة المعرفة بحسب قوة الإيمان ونور العلم وضعف المعرفة بحسب الغفلة وحب الدنيا ونسيان الآخرة وقلة التفكر فيما عند الله وقلة التأمل في آفات الحياة الدنيا وعظيم نعيم الآخرة وبعض ذلك ينتج بعضاً ويثمره وأصل ذلك كله حب الدنيا وغلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة ومنبع كل ذنب لأن حلاوة حب الجاه والمنزلة ونعيم الدنيا هي التي تغضب القلب وتسلبه وتحول بينه وبين التفكر في العاقبة والاستضاءة بنور الكتاب والسنة وأنوار العلوم‏.‏

فإن قلت‏:‏ فمن صادف من نفسه كراهة الرياء وحملته الكراهة على الإباء ولكنه مع ذلك غير خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ومنازعته إياه إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه وغير محبب إليه فهل يكون في زمرة المرائين فاعلم أن الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات ولا ينزع إليها وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثارها من معرفة العواقب وعلم الدين وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر فإذا فعل ذلك فهو الغاية في أداء ما كلف به‏.‏

ويدل على ذلك من الأخبار ما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا إليه وقالوا‏:‏ تعرض لقلوبنا أشياء لأن تخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم بها فقال عليه السلام ‏"‏ أو قد وجدتموه ‏"‏ قالوا‏:‏ نعم قال ‏"‏ ذلك صريح الإيمان ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له ولا يمكن أن يقال أراد بصريح الإيمان الوسوسة فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة والرياء وإن كان عظيماً فهو دون الوسوسة في حق الله تعالى فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر الأصغر أولى وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أنه قال ‏"‏ الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة وقال أبو حازم‏:‏ ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه‏.‏

فإذن وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من الشيطان والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل إلا أن للشيطان ههنا مكيدة وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال حتى يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصاناً في منزلته عند الله‏.‏

والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب ‏"‏ الأولى ‏"‏ أن يرده على الشيطان فيكذبه ولا يقتصر عليه بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال معه لظنه أن ذلك أسلم لقلبه وهو على التحقيق نقصان لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق والتعريج على قتال قطاع الطريق نقصان في السلوك‏.‏

‏"‏ الثانية ‏"‏ أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا يشتغل بمجادلته ‏"‏ الثالثة ‏"‏ أن لا يشتغل بتكذيبه أيضاً لأن ذلك وقفة وإن قلت بل يكون قد قرر في عقد ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحباً للكراهة غير متشغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة‏.‏

‏"‏ الرابعة ‏"‏ أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جرايان أسباب الرياء فيكون قد عزم على أنه مهما نزغ الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله وإخفاء الصدقة والعبادة غيظاً للشيطان وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه حتى لا يرجع‏.‏

يروى عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له‏:‏ إن فلاناً يذكرك فقال والله لأغيظن من أمره قيل‏:‏ ومن أمره قال‏:‏ الشيطان اللهم اغفر له‏.‏

أي لأغيظنه بأن أطع الله فيه‏.‏

ومهما عرف الشيطان من عبد هذه العادة كف عنه خيفة من أن يزيد في حسناته‏.‏

وقال إبراهيم التيمي‏:‏ إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم فلا يطعه وليحدث عند ذلك خيراً فإذا رآه كذلك تركه‏:‏ وقال أيضاً‏:‏ إذا رآك الشيطان متردداً طمع فيك وإذا رآك مداوماً ملك وقلاك‏.‏

وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالاً أحسن فيه فقال‏:‏ مثالهم كأربعة قصدوا مجلساً من العلم والحديث لينالوا به فائدة وفضلاً وهداية ورشداً فحسدهم على ذلك ضال مبتدع وخاف أن يعرفوا الحق فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك ودعاه إلى مجلس ضلال فأبى فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة فاشتغل معه ليرد ضلاله وهو يظن أن ذلك مصلحة له وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره‏.‏

فلما مر الثاني عليه نهاه واستوقفه فوقف فدفع في نحر الضال ولم يشتعل بالقتال واستعجل ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع فيه‏.‏

ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله بل استمر على ما كان فخاب منه رجاؤه بالكلية‏.‏

فمر الرابع فلم يتوقف له وأراد أن يغيظه فزاد في عجلته وترك التأني في المشي فيوشك إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير فإنه لا يعاوده خيفة من أن يزداد فائدة باستعجاله‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإذا كان الشيطان لا تؤمن نزغاته فهل يجب الترصد له قبل حضوره للحذر منه انتظاراً لوروده أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع له أو يجب الاشتغال بالعبادة والغفلة عنه قلنا‏:‏ اختلف الناس فيه على ثلاثة أوجه‏:‏ فذهبت فرقة من أهل البصرة إلى أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر من الشيطان لأنهم انقطعوا إلى الله واشتغلوا بحبه فاعتزلهم الشيطان وأيس منهم وخنس عنهم - كما أيس من ضعفاء العباد في الدعوة إلى الخمر والزنا - فصارت ملاذ الدنيا عندهم - وإن كانت مباحة - كالخمر والخنزير فارتحلوا من حبها بالكلية فلم يبق للشيطان إليهم سبيل فلا حاجة بهم إلى الحذر‏.‏

وذهبت فرقة من أهل الشام إلى أن الترصد للحذر منه إنما يحتاج إليه من قل يقينه ونقص توكله فمن أين بأن لا شريك لله في تدبيره فلا يحذر غيره ويعلم أن الشيطان ذليل مخلوق ليس له أمر ولا يكون إلا ما أراده الله فهو الضار والنافع والعارف يستحيي منه أن يحذر غيره فاليقين بالوحدانية يغنيه عن الحذر‏.‏

وقالت فرقة من أهل العلم‏:‏ لا بد من الحذر من الشيطان وما ذكره البصريون من أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر وخلت قلوبهم عن حب الدنيا بالكلية فهو وسيلة الشيطان يكاد يكون غروراً إذ الأنبياء عليهم السلام لم يتخلصوا من وسواس الشيطان ونزغاته فكيف يتخلص غيرهم وليس كل وسواس الشيطان من الشهوات وحب الدنيا بل في صفات الله تعالى وأسمائه وفي تحسين البدع والضلال وغير ذلك ولا ينجو أحد من الخطر فيه ولذلك قال تعالى ‏"‏ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله بآياته ‏"‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنه ليغان على قلبي مع أن شيطانه قد أسلم ولا يأمره إلا بخير فمن ظن أن اشتغاله بحب الله أكثر من اشتغال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام فهو مغرور ولم يؤمنهم ذلك من كيد الشيطان ولذلك لم يسلم منه آدم وحواء في الجنة التي هي دار الأمن والسرور بعد أن قال الله لهما ‏"‏ إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ‏"‏ ومع أنه لم ينه إلا عن شجرة واحدة وأطلق له وراء ذلك ما أراد فإذا لم يأمن نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف يجوز لغيره أن يأمن في دار الدنيا وهي منبع المحن والفتن معدن الملاذ والشهوات المنهي عنها وقال موسى عليه السلام فيما أخبر عنه الله ‏"‏ هذا من عمل الشيطان ‏"‏ ولذلك حذر الله منه جميع الخلق فقال الله تعالى ‏"‏ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ‏"‏ وقال عز وجل ‏"‏ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ‏"‏ والقرآن من أوله إلى آخره تحذير من الشيطان فكيف وقد أمر بالحذر من العدو كما أمر بالحذر من الكفار فقال تعالى ‏"‏ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ‏"‏ فإذا لزمك بأمر الله الحذر من العدو الكافر وأنت تراه فبأن يلزمك الحذر من عدو يراك ولا تراه أولى‏.‏

ولذلك قال ابن محيريز‏:‏ صيد تراه ولا يراك يوشك أن تظفر به وصيد يراك ولا تراه يوشك أن يظفر بك‏.‏

فأشار إلى الشيطان فكيف وليس في الغفلة عن عداوة الكافر إلا قتل هو شهادة وفي إهمال الحذر من الشيطان التعرض للنار والعقاب الأليم فليس من الاشتغال بالله الأعراض عما حذر الله وبه يبطل مذهب الفرقة الثاني في ظنهم أن ذلك قادح في التوكل فإن أخذ الترس والسلاح وجمع الجنود وحفر الخندق لم يقدح في توكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يقدح في التوكل الخوف مما خوف الله به والحذر مما أمر بالحذر منه وقد ذكرنا في كتاب التوكل ما يبين غلط من زعم أن معنى التوكل النزوع عن الأسباب بالكلية وقوله تعالى ‏"‏ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ‏"‏ لا يناقض امتثال التوكل مهما اعتقد القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى فكذلك يحذر الشيطان ويعتقد أن الهادي والمضل هو الله ويرى الأسباب وسائط مسخرة - كما ذكرناه في التوكل‏.‏

وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي رحمه الله وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم وما قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر علمهم ويظنون أن ما يهجم عليهم من الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله يستمر على الدوام وهو بعيد‏.‏

ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم‏:‏ إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب في قلوبنا عن ذكره والحذر منه والترصد له فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا‏.‏

وقال قوم‏:‏ إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله واشتغال الهم كله بالشيطان وذلك مراد الشيطان منا بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ولا ننسى الشيطان وعداوته والحاجة إلى الحذر منه فنجمع بين الأمرين فإنا إن نسينا ربما عرض من حيث لا نحتسب وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله فالجمع أولى‏.‏

وقال العلماء المحققون‏:‏ غلط الفريقان أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر الله فلا يخفى غلطه وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان كيلا يصدنا عن الذكر فكيف نجعل ذكره اغلب الأشياء على قلوبنا وهو منتهى ضرر العدو ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن نور ذكر الله تعالى فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى وقوة الاشتغال به فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه فلم يأمرنا بانتظار الشيطان ولا بإدمان ذكره وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى إذ جمعت في القلب بين ذكر الله والشيطان وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله وقد أمر الله الخلق بذكره ونسيان ما عداه - إبليس وغيره - فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من الشيطان ويقرر على نفسه عداوته فإذا اعتقد ذلك وصدق به وسكن الحذر فيه فيشتغل بذكر الله ويكب عليه بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان فإنه إذا اشتغل بذلك بعد معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له وعند التنبيه يشتغل بدفعه والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان بل الرجل ينام وهو خائف من أن يفوته مهم عند طلوع الصبح فيلزم نفسه الحذر وينام على أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه في الليل مرات قبل أوانه لما أسكن في قلبه من الحذر مع أنه بالنوم غافل عنه فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع تنبهه ومثل هذا القلب هو الذي يقوي على دفع العدو إذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله تعالى قد أمات منه الهوى وأحيا فيه نور العقل والعلم وأماط عنه ظلمة الشهوات فأهل البصيرة أشعروا قلوبهم عداوة الشيطان وترصده وألزموها الحضر ثم لم يشتغلوا بذكره بل بذكر الله ودفعوا بالذكر شر العدو واستضاءوا بنور الذكر حتى صرفوا خواطر العدو‏.‏

فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر ليتفجر منها الماء الصافي‏.‏

فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر الله فقد نزح الماء القذر من جانب ولكنه تركه جارياً إليها من جانب آخر فيطول تعبه ولا تجف البئر من الماء القذر والبصير هو الذي جعل لمجرى الماء القذر سداً وملأها بالماء الصافي فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسكر والسد من غير كلفة ومؤنة وزيادة تعب‏.‏